وهذه سنة طبيعية جعلها الله تعالى في هذا الكون، فانظروا إلى أمريكا ، فإنها لما أخذت بهذه القاعدة صارت في قمة الحضارة المادية الآن؛ لأنها لا تبالي بالعنصرية هنا، فأي عالم منتج ومبدع في أي فن فإنها لا تبالي أياً كان بلده، أو منشؤه، أو لونه، فتأخذه وتعطيه أضعاف أضعاف ما يأخذ في بلده، وتستفيد من خبرته، ويعطى الجنسية، ولا ينظر إلى أي شيء آخر غير ذلك، هذا مع جاهليتهم المقيتة التي لم تتخلص قلوبهم منها، لكنهم في تعاملهم وجدوا أنه يجب أن يكون التعامل على هذا الأساس مع هذه العقول، فينشئون ما يسمى: هجرة الأدمغة، أو شراء الأدمغة، فلا يبالون أياً كان: هندوسياً، أو صينياً، أو بوذياً، أو عربياً، فالمهم أن لديه ميزة تأتي به، فطبيعي في أمة هذا حالها أن تتقدم، وأن تترقى، وأن تجمع خبرات أكثر من غيرها من دول العالم كله؛ لأنها أخذت بسنة من سنن الله تعالى.
فالحضارة الإسلامية أخذت هذا ببداهة، وليس عن وعي كامل أو تخطيط، والمقيم في بلاد الإسلام من أهل الكتاب له من الحقوق كل ما جعل له الشرع، ولا يستطيع أحد أن يغمطه فضله، فليبدع ولينتج وليعمل كما يشاء، ومن هنا وصلوا إلى حضارة يحسدهم عليها العالم إلى يومنا هذا، ولا نقول في الماضي؛ لأن الغرب في الماضي لم يكن لديهم من العقل ما يستطيع أن يدرك به مقدار الحضارة أصلاً؛ لأنه يراها شعاعاً يبهر عينيه، ولا يعرف كيف يفسره، وأما الآن فقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الحضارة، فينظرون إلى ما كان عليه المسلمون، ويتعجبون: كيف كانوا يعيشون؟! ويتمنى بعضهم الآن ممن سأموا حياة المدن، يتمنون أن يعيشوا في الأرياف، وأكثر العلماء والمفكرين هناك يعيشون بعيداً عن المدن الصاخبة والمزدحمة؛ حتى يستطيع أن يفكر.
كثير منهم يتمنى أن يبني بيتاً على نمط بيوت بغداد أو قرطبة ؛ حيث يكون التكييف فيها طبيعياً، ويكون الجو كذا نقياً، فهم يرون آثاراً وحفريات قديمة، فيتمنى الواحد منهم أن يكون عنده بيت مثل هذه البيوت، مع أنهم الآن يعيشون فيما نرى من حضارة، فما بالك بمن كان معاصراً لأولئك المسلمين.